ليس من المحبّذ، كما نظن، عزل موضوعة تحرير المرأة العربية وتحررها عن روابطها الاجتماعية لارتهانها بقضية التحرر الاجتماعي العام للبنية الاجتماعية العربية في مستوياتها الثلاث فكري ـ اقتصادي ـ سياسي إلاّ من قبيل الدراسة الجزئية الوقتية، لأنه وكما نظن، لا يستقيم في الأصل عزل نجاح أو فشل تحرر المرأة في البنية المجتمعية عن نجاح أو فشل حركة التحرر العامة على المستوى الوطني ضد الاستعمار لتحصيل الاستقلال المنجز، أو الاجتماعي ضد الكمبرادور العربي المافوي (البلطجي) المتخارج (أي عميل أو وكيل الرأسمال الصهيوامبريالي) للقضاء على استغلاله للشغيلة لإنهاء شعور الاغتراب من لدنها، أو السياسي ضد أشكال الاستبداد الحاكم لنزع الهوان الشعبي لتحصيل الحريات الشعبية العامة.
لا يستقيم تحرر دون أن يشمل جميع مفاصل المجتمع العربي الذي غالبا ما تمثل نساءه أكثر من تعداد نصفه، هذا هو منطق التاريخ بغض النظر عن انعراجاته أو تحويره وتحريفه عن سابق قصد أو دونه عند العديد من الحركات الاجتماعية-السياسية التي تشكلت سابقا للتحرر الوطني العربي زمن الاستعمار المباشر أو التي قادت مرحلة ما يسمى بعد الاستعمار (نطلق عليها هذه التسمية تجاوزا لأننا نرى أن الاستعمار لم يرحل من منطقتنا وما زال قابعا فيها بأشكال مختلفة ويتحكم في مفاصل بنيتنا الاجتماعية وعلى جميع الأصعدة في عائلة سايكس بيكو) والتي كانت تنتمي في غالبيتها إلى التكوينات الماقبل رأسمالية ثم البورجوازية الكمبرادورية انتماءا طبقيا كانت أو استظلالا بأيديولوجيتها والتي غالبا ما عبر عنه من خلال الممارسة الأيديولوجية الوسيطة بالترويج لنص ديني هجري تفكرا وتسييسا في بلادنا.
إن إلغاء قدرة المرأة الواقعية قد جرى بفعل أكبر دور من أدوار شعوذة تفوق التصور مورست من قبل هذا النص الهجري، ومأساة ما جرى في ظل هذا الفكر الهجري الممتد هو تحوله بسبب ممارسته التاريخية المتواصلة (تصادمت معه في بعض مفاصله حقبة المعتزلة والقرامطة وغيرها) إلى إحساس لاشعوري يسهل انتقاله إلى ساعة الوعي لدى الطرفين ذكرا وأنثى ليتحول إلى مرجعية للتفكير الشعبي. إن الذكر العربي الذي يعاني من قهر شعور المهانة في ظل سلطة الاستبداد المحلي ـ الخارجي يخشى أن يرفع القناع عن رجولته المزيفة أمام المرأة حتى لا تكتشف كم هو مشلول الإرادة وعاجز في مواجهة الاستبداد المتوالي، ولكي لا تكتشف المرأة خواءه المحزن يستبد بها ويحقرّها هربا وتعويضا عصابيا بدلا من أن يلقي برأسه على صدرها يشكو لها قهره.
كيف لاقتصاد ريعي ممتد حتى عصرنا الحالي أن ينجز أو يمهد على الأقل لتحرير الأنثى إلى امرأة وهو عاجز في الأصل عن تحرير إرادة المجتمع والوطن بكليته، مستحيل على مجتمع ذكوري مخصي أن ينصف امرأة قبل أن يزيل التشوهات التي لحقت برجولته.
إن أي مجتمع ذكوري يخشى المرأة فيعزلها خلف حجابها هو مجتمع يعاني رهابا عميقا مما تمثله هذه الأنثى من قدرات بالنسبة له كذكر. لذا فإن ضمان فعالية شعار تحرير المرأة وتحررها وتمكينها من استعادة قدراتها لممارسة دورها الاجتماعي والحفاظ عليه لا يتأتى سوى بنضال ينهض به جميع أفراد المجتمع بلا كلل، المرأة إلى جانب الرجل، يدا بيد والكتف على الكتف: بما يعني انتفاء التمييز الجنسي بينهما، لإنجاز التحرير الشامل والمتكامل لمجمل البنية المجتمعية وعلى جميع المستويات: الاقتصادية والفكرية والسياسية دون أن يعني ذلك أسبقية لأحدهما على الآخر، بل المسير بهما حزمة واحدة متضامنة، وليس هناك أي إمكانية لتحقيق ذلك إلاّ من خلال أفق فكري سياسي مختلف عماّ جرى منذ بواكير النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن: فكر كمبرادوري يغلفه نص ديني هجري يلحق المرأة منذ بدء الكلم بالرجل (الرجال قوامون على النساء) فينتزع مبادراتها كإنسان حر ناضج لتقترب منزلتها حسب هذا النص الهجري من منزلة العبد في أحسن أحوالها.
ليس هناك منظور موضوعي لتحرر المرأة العربية، كما نرى، دون انخراطها الفعال في شمولية النضال الوطني على جميع أصعدة مستوياته المذكورة آنفا وبعقلية مختلفة عن العقل الهجري وعدم الاكتفاء بالانزواء خلف منظمات وشعارات نسوية أنشأتها العديد من الأنظمة لزوم الديكور الكمبرادوري والتطبيع مع العدو، على ألاّ يمنع الإقرار بأهمية الكثير من النشاطات الفردية أو الجمعية النسائية الممكنة لتبديل قناعات اجتماعية عامة أو حزبية أو مؤسسية ودفعها سياسيا وثقافيا وأخلاقيا ودستوريا ليس لإعادة النظر في تفسير الكثير من النصوص الدينية المنسوخة ذات التأثير الأيديولوجي فحسب بل لإعادة صياغة الفكر الديني برمّته بوحي العصر الحالي بما يعني حركة إصلاح ديني تشريعي دستوري شامل على نهج ما سلكت المجتمعات الأوربية بعيد الثورة الفرنسية التي حققت تحررها وتقدمها. أليس نحن أيضا في حالة ثورة عربية؟ من الواجب على هذه الثورات أن تتبنى هذه القضية بشعارات واضحة وصريحة تدعو إلى إلغاء أو تعديل الكثير من الأعراف الاجتماعية التي تبرر لممارسة الاضطهاد ضد المرأة واستعبادها وإقصائها عن ممارسة دورها الإنساني المعتاد والاعتداء على حقها كإنسان متكافئ مع الرجل علّه يؤدي إلى تفعيل قاطرة التقدم الاجتماعي العربي للخروج من حالة الانحطاط الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ الفكري ـ السياسي الذي تعانيه الأمة، أليست مهمة إزالة اضطهاد المرأة من مجتمعاتنا العربية بأهمية نزع فتيل الطائفية والعشائرية والمذهبية؟ بلى ولا تقل عن ذلك وهي إحدى الركائز التي يعتمدها الهجريون إلى جانب الطائفية والمذهبية والعشائرية لنشر الوهن في بنية الأمة، وإن استمرار التفكير بأدوات العقل الهجري الكمبرادوري يلعب دورا تفتيتيا هداما لجسد هذه الأمة وسيبقى يشدّها إلى النكوص في جميع محاولاتها النهضوية والانكفاء على ذاتها كما فعل دائما، والمسؤولية تلقى على عاتق الجميع لإلغاء أو تعديل الكثير من الأعراف الاجتماعية التي تبرر لممارسة الاضطهاد ضد المرأة واستعبادها وإقصائها عن ممارسة دورها الإنساني المعتاد والاعتداء على حقها كإنسان متكافئ مع الرجل.
إن تردي وضع المرأة العربية والذي تشير إليه الكثير من السلوكيات التمييزية بحقها من خلال الكثير من الظواهر التي لا تحتاج للاستشهاد بها بأي إحصائيات رسمية أو غير رسمية، تشير إلى تدنّي جميع مواقعها الاجتماعية: إن في الاقتصاد والعمل أو التشكيلات السياسية أو التشريعية، والغبن المطبق عليها لا ينسجم مع ما هو ملقى على عاتقها من أعباء اجتماعية: أعمال أسرية ومنزلية، مربية لأطفال سيصبحوا أجيال المستقبل، مشاركة في أعباء العائلة المالية من خلال عملها خارج المنزل، وبعد كلّ هذا يعتبرها الهجريون نصف شهادة ونصف حصة من الميراث وكثيرا ما يتم الاعتداء على هذه الحصة من قبل الذكر وإن حصلت عليه تحرم من التصرف به أو إدارته، محرومة من ممارسة الكثير من الانفعالات العاطفية المقصورة على الذكر، محرومة من اختيار شريك حياتها وأحيانا صديقاتها، بكل بساطة يعتبرونها بنصف عقل وجالبة للعار!! فكل ما فيها عورة: شعرها/يداها/قدماها/عيناها/شفتاها وحتى صوتها. تؤنب على كل شيء يصدر عنها، وتختصر لدى هؤلاء الذكور الهجريين إلى موضوع جنسي مشتهى لا يجتمع رجل لوحده معها إلاّ والشيطان ثالثهما!! ويتميز الذكور الهجريون عنها على أنهم عدوانيون، لا يكتفون بضربها كما يدعوهم نصهم الهجري لتأديبها بل يقتلونها ولأسباب سخيفة بحجة الدفاع عن "الشرف" لأنها بكل بساطة ولا تحتاج لأي إثبات أو شهود "عايبة"!! هل يملك هؤلاء الهجريون بقية لشرف عائلي أووطني أو من أي نوع من الشرف عندما يبيحون للعدو كل ما في هذا الوطن؟ ولا تجد المقالة هنا متسع للتحدث كثيرا عن هذا "الشرف العائلي "المجروح والذي يدنسه الذكر الهجري صباحا مساءا.
إننا نعتقد جازمين أن ما يقف خلف السلوك العدواني للذكر العربي نحو المرأة هو شعوره بالقهر وبالمهانة مما تمارسه السلطات المستبدة بحقه من اضطهاد وإيغال في سحق آدميته، لأن رزح الإنسان المقهور تحت ضغط شعوره القهري يدفعه للتفتيش عن ضحية يحملها وزر عدوانيته المتراكمة داخله، فهو لا يكتفي بإدانة نفسه إلى درجة الدونية وجلد الذات وعدم احترامه لها كما وقع بل يحتاج إلى آخر ضعيف يدينه ويضع اللوم عليه وعندما بحث عن هذا الآخر لم يجد سوى المرأة أو الأبناء الصغار ليلقي عليهم لوم ما يعانيه من شعور المهانة. المصيبة أن سلطات الاستبداد ترعى وترسخ هذا الشعور لديه من خلال دسترة لقتل المرأة لقنونة العرف الاجتماعي المقيت. إن العديد من دساتير النظم العربية المستبدة تسهل لقتل المرأة على أساس جرائم الشرف وتسهل لطلاقها التعسفي أو للزواج عليها من أخرى مستندة على التشريع الهجري ذاته لأنه يعتبر "المرجعية الأساسية في التشريع" في جميع الدساتير العربية مع التأكيد على ال التعريف، إن لب الموضوع في سجن المرأة العربية هنا في هذه العقلية الهجرية وليس في حجاب رأسها: لأننا نعتقد أن العقل الهجري في مجتمعاتنا العربية الإسلامية يرمي إلى حجب عقلها وحريتها، فالحجاب كلباس هو اختيار يندرج من وجهة نظرنا تحت قائمة الحريات الشخصية إن لم ترتده الفتاة والمرأة بالإكراه وهذا يحصل كثيرا وللأسف.
إن العنف آفة المجتمعات الاستبدادية، لأنه انفجار الحقيقة الكامنة لشعور المهانة، فالسلطة العربية المستبدة لا تسعى ولا تريد مواطنين أسوياء بل تفضل قطيعا يتبعها لأنها تعتبر نفسها مرياعا، تريد مريدين وأتباعا وعبيدا مطيعين، وهؤلاء جميعهم يعانون من رهاب مستمر. تخشى سلطاتنا العربية المواطنية لأنها تنزلها من مكانتها الجبروتية إلى مستوى العلاقة الإنسانية العادية مع مواطنيها، التي تتضمن الاعتراف المتبادل والآراء المختلفة والتساؤلات المتبادلة.
إن وضعية المرأة في المجتمعات العربية هو المثال الأفصح على وضعية القهر الاجتماعي بكل أوجهه ودينامياته في التشكيلة الاستبدادية، وعجزها يعتبر أوضح تعبير عن شعور العجز والقصور وعقد النقص والعار الذي يعانيه أفراد المجتمع في هذه التشكيلة الاستبدادية، إنه أبلغ دليل على اضطراب الشخصية الاجتماعية وذهنيتها وقصور التفكير الجدلي واستحكام الخرافة. ليس لهذه الحالة التي تظهر عليها المرأة العربية علاقة ببنيتها البيولوجية أو التشريحية أو العقلية أو العاطفية كما يدعي الهجريون بل يرتبط كل الارتباط بقهرها المضاعف: اجتماعي ـ اقتصادي ـ سياسي ـ ديني، فالفروق البيولوجية والوظيفية والتشريحية لا تبرر ما يفرض عليها من تبخيس لإنسانيتها بل نكاد نقر بأنها أكثر مناعة من الرجل وأن تكوينها البيولوجي الوراثي أكثر متانة كما دلت أبحاث علمية كثيرة، الفرق بينهما هو ما يعطى لكل منهما من مكانة اجتماعية وحرية حركة وفرص تفيض للرجل وتشح للمرأة مما يؤدي إلى تنمية إمكانات الرجل وطمس ما لدى المرأة. يعتبر الاستبداد المضاعف الذي تمارسه السلطات المحلية المتخارجة مع قوى العدو في مجتمعاتنا العربية مسببا رئيسيا لأمراض الشخصية العربية واهتزازها مما يفسر حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والعدوانية والإرهاب وكل السلوك الغير سوي فرديا وجماعيا، ولا سبيل لتعافي الشخصية العربية، رجلا وامرأة، والتمتع بنعيم توازنها النفسي سوى بالثورة على الاستبداد بشقيه، وهذا ما ينبغي على الانتفاضات العربية أن تفعله، لا يمكن للوطن ولا للرجل أن يتحررا دون تحرر المرأة ومساواتها بالحقوق لأنه ليس بالإمكان لمجتمع أن يتحرر ويرتقي إلا بتحرر وارتقاء أكثر فئاته قهرا وغبنا إن كانت امرأة أو طفلا أو أقلية، فالتحرر إما أن يكون جماعيا أو لا يكون، وسواه مجرد وهم أو ادعاء.
بقي أن نعرج على نقطة أساسية هامة تتعلق بتاريخية هذا الاضطهاد الذي ما زالت ترزح تحت عبئه المرأة في كل أصقاع العالم يعاد إنتاجه بشكل دوري ومستمر ألا وهو تلازم تاريخ اضطهاد المرأة مع نشوء الملكية الخاصة.
لا تولّد الملكية الخاصة سوى الأنانية والمنافسة والعدوانية والعنصرية، فهي تفتح شهية الربح والطمع اللذان يوديان إلى الحروب التي تصنع انتصاراتها على حساب مصائر الضعفاء المحطمة، والمرأة هي الأكثر تحطما بين الضعفاء، "فهي زنجية الرجل ومستعمرته الأخيرة".
يظل التحرر ناقصا في ظل سيادة الملكية الخاصة التي أنتجت في جولاتها الأخيرة السلعة التبادلية لتنصّب إمبراطورة على إمبراطورية "السوق الحرة"، والحر الوحيد في هذه العلاقة هم المتحكمون بهذه السوق أصحاب رؤوس الأموال الأقوياء والبقية مجرد توابع وعبيد تزداد تبعيتهم كلما تقدمت حرية هؤلاء الأقوياء بالتحكم بهذه السوق، وما تتعرض له المرأة حتى في دول المركز الأكثر "تقدما" من استغلال في كثير من الأحيان ممأسس دولانيا يشكل أحد العناصر المكونة للنظام الرأسمالي بشكل عام، فالمرأة هناك تتعرض إلى العديد من أشكال التمييز بالنسبة للرجل فما زالت تتلقى أقل أجرا منه لنفس العمل ومواصفاته، ولا تجد في معظم الأحيان فرصة في عمل كامل الساعات والأجر، فعلى الرغم من ادعائهم هناك أنهن "يزرعن الشمس في ليل هذه الغابة الحالك" إلاّ أنه يميزن عن الرجل بناءا على تركيبهن البيولوجي أثناء اختيارهن للعمل إما بسبب دورتهن الشهرية أو رحمهن الواهب للحياة أو إرضاعهن لأطفالهن.
لا يكفي لتحقيق حرية المرأة توسع أفقي تحدثه بعض التشريعات في الدول التي تسمى متقدمة صناعيا كحق انتخاب المرأة وترشحها لأن التغيير الذي يمكن أن يطلق حرية المرأة كاملة هو التغيير الذي يعيد تشكيل المجتمع عموديا لينتج نمطا من العلاقات السوية بين أفراد المجتمع ومن ضمنها الرجل والمرأة ينتفي في ظلها شعور الاغتراب بكل أنواعه في إطار مجتمع عادل يحفظ كرامة كل منهما ويصون حرية كل منهما: الشخصية والجنسية بعيدا عن المساومة والضغط والقهر، ولا يمكن اعتبار قضية المرأة قضية نسائية بحتة بل هي مشكلة التطور الإنساني برمته نحو قيم إنسانية عالية.
لا يستقيم تحرر دون أن يشمل جميع مفاصل المجتمع العربي الذي غالبا ما تمثل نساءه أكثر من تعداد نصفه، هذا هو منطق التاريخ بغض النظر عن انعراجاته أو تحويره وتحريفه عن سابق قصد أو دونه عند العديد من الحركات الاجتماعية-السياسية التي تشكلت سابقا للتحرر الوطني العربي زمن الاستعمار المباشر أو التي قادت مرحلة ما يسمى بعد الاستعمار (نطلق عليها هذه التسمية تجاوزا لأننا نرى أن الاستعمار لم يرحل من منطقتنا وما زال قابعا فيها بأشكال مختلفة ويتحكم في مفاصل بنيتنا الاجتماعية وعلى جميع الأصعدة في عائلة سايكس بيكو) والتي كانت تنتمي في غالبيتها إلى التكوينات الماقبل رأسمالية ثم البورجوازية الكمبرادورية انتماءا طبقيا كانت أو استظلالا بأيديولوجيتها والتي غالبا ما عبر عنه من خلال الممارسة الأيديولوجية الوسيطة بالترويج لنص ديني هجري تفكرا وتسييسا في بلادنا.
إن إلغاء قدرة المرأة الواقعية قد جرى بفعل أكبر دور من أدوار شعوذة تفوق التصور مورست من قبل هذا النص الهجري، ومأساة ما جرى في ظل هذا الفكر الهجري الممتد هو تحوله بسبب ممارسته التاريخية المتواصلة (تصادمت معه في بعض مفاصله حقبة المعتزلة والقرامطة وغيرها) إلى إحساس لاشعوري يسهل انتقاله إلى ساعة الوعي لدى الطرفين ذكرا وأنثى ليتحول إلى مرجعية للتفكير الشعبي. إن الذكر العربي الذي يعاني من قهر شعور المهانة في ظل سلطة الاستبداد المحلي ـ الخارجي يخشى أن يرفع القناع عن رجولته المزيفة أمام المرأة حتى لا تكتشف كم هو مشلول الإرادة وعاجز في مواجهة الاستبداد المتوالي، ولكي لا تكتشف المرأة خواءه المحزن يستبد بها ويحقرّها هربا وتعويضا عصابيا بدلا من أن يلقي برأسه على صدرها يشكو لها قهره.
كيف لاقتصاد ريعي ممتد حتى عصرنا الحالي أن ينجز أو يمهد على الأقل لتحرير الأنثى إلى امرأة وهو عاجز في الأصل عن تحرير إرادة المجتمع والوطن بكليته، مستحيل على مجتمع ذكوري مخصي أن ينصف امرأة قبل أن يزيل التشوهات التي لحقت برجولته.
إن أي مجتمع ذكوري يخشى المرأة فيعزلها خلف حجابها هو مجتمع يعاني رهابا عميقا مما تمثله هذه الأنثى من قدرات بالنسبة له كذكر. لذا فإن ضمان فعالية شعار تحرير المرأة وتحررها وتمكينها من استعادة قدراتها لممارسة دورها الاجتماعي والحفاظ عليه لا يتأتى سوى بنضال ينهض به جميع أفراد المجتمع بلا كلل، المرأة إلى جانب الرجل، يدا بيد والكتف على الكتف: بما يعني انتفاء التمييز الجنسي بينهما، لإنجاز التحرير الشامل والمتكامل لمجمل البنية المجتمعية وعلى جميع المستويات: الاقتصادية والفكرية والسياسية دون أن يعني ذلك أسبقية لأحدهما على الآخر، بل المسير بهما حزمة واحدة متضامنة، وليس هناك أي إمكانية لتحقيق ذلك إلاّ من خلال أفق فكري سياسي مختلف عماّ جرى منذ بواكير النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن: فكر كمبرادوري يغلفه نص ديني هجري يلحق المرأة منذ بدء الكلم بالرجل (الرجال قوامون على النساء) فينتزع مبادراتها كإنسان حر ناضج لتقترب منزلتها حسب هذا النص الهجري من منزلة العبد في أحسن أحوالها.
ليس هناك منظور موضوعي لتحرر المرأة العربية، كما نرى، دون انخراطها الفعال في شمولية النضال الوطني على جميع أصعدة مستوياته المذكورة آنفا وبعقلية مختلفة عن العقل الهجري وعدم الاكتفاء بالانزواء خلف منظمات وشعارات نسوية أنشأتها العديد من الأنظمة لزوم الديكور الكمبرادوري والتطبيع مع العدو، على ألاّ يمنع الإقرار بأهمية الكثير من النشاطات الفردية أو الجمعية النسائية الممكنة لتبديل قناعات اجتماعية عامة أو حزبية أو مؤسسية ودفعها سياسيا وثقافيا وأخلاقيا ودستوريا ليس لإعادة النظر في تفسير الكثير من النصوص الدينية المنسوخة ذات التأثير الأيديولوجي فحسب بل لإعادة صياغة الفكر الديني برمّته بوحي العصر الحالي بما يعني حركة إصلاح ديني تشريعي دستوري شامل على نهج ما سلكت المجتمعات الأوربية بعيد الثورة الفرنسية التي حققت تحررها وتقدمها. أليس نحن أيضا في حالة ثورة عربية؟ من الواجب على هذه الثورات أن تتبنى هذه القضية بشعارات واضحة وصريحة تدعو إلى إلغاء أو تعديل الكثير من الأعراف الاجتماعية التي تبرر لممارسة الاضطهاد ضد المرأة واستعبادها وإقصائها عن ممارسة دورها الإنساني المعتاد والاعتداء على حقها كإنسان متكافئ مع الرجل علّه يؤدي إلى تفعيل قاطرة التقدم الاجتماعي العربي للخروج من حالة الانحطاط الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ الفكري ـ السياسي الذي تعانيه الأمة، أليست مهمة إزالة اضطهاد المرأة من مجتمعاتنا العربية بأهمية نزع فتيل الطائفية والعشائرية والمذهبية؟ بلى ولا تقل عن ذلك وهي إحدى الركائز التي يعتمدها الهجريون إلى جانب الطائفية والمذهبية والعشائرية لنشر الوهن في بنية الأمة، وإن استمرار التفكير بأدوات العقل الهجري الكمبرادوري يلعب دورا تفتيتيا هداما لجسد هذه الأمة وسيبقى يشدّها إلى النكوص في جميع محاولاتها النهضوية والانكفاء على ذاتها كما فعل دائما، والمسؤولية تلقى على عاتق الجميع لإلغاء أو تعديل الكثير من الأعراف الاجتماعية التي تبرر لممارسة الاضطهاد ضد المرأة واستعبادها وإقصائها عن ممارسة دورها الإنساني المعتاد والاعتداء على حقها كإنسان متكافئ مع الرجل.
إن تردي وضع المرأة العربية والذي تشير إليه الكثير من السلوكيات التمييزية بحقها من خلال الكثير من الظواهر التي لا تحتاج للاستشهاد بها بأي إحصائيات رسمية أو غير رسمية، تشير إلى تدنّي جميع مواقعها الاجتماعية: إن في الاقتصاد والعمل أو التشكيلات السياسية أو التشريعية، والغبن المطبق عليها لا ينسجم مع ما هو ملقى على عاتقها من أعباء اجتماعية: أعمال أسرية ومنزلية، مربية لأطفال سيصبحوا أجيال المستقبل، مشاركة في أعباء العائلة المالية من خلال عملها خارج المنزل، وبعد كلّ هذا يعتبرها الهجريون نصف شهادة ونصف حصة من الميراث وكثيرا ما يتم الاعتداء على هذه الحصة من قبل الذكر وإن حصلت عليه تحرم من التصرف به أو إدارته، محرومة من ممارسة الكثير من الانفعالات العاطفية المقصورة على الذكر، محرومة من اختيار شريك حياتها وأحيانا صديقاتها، بكل بساطة يعتبرونها بنصف عقل وجالبة للعار!! فكل ما فيها عورة: شعرها/يداها/قدماها/عيناها/شفتاها وحتى صوتها. تؤنب على كل شيء يصدر عنها، وتختصر لدى هؤلاء الذكور الهجريين إلى موضوع جنسي مشتهى لا يجتمع رجل لوحده معها إلاّ والشيطان ثالثهما!! ويتميز الذكور الهجريون عنها على أنهم عدوانيون، لا يكتفون بضربها كما يدعوهم نصهم الهجري لتأديبها بل يقتلونها ولأسباب سخيفة بحجة الدفاع عن "الشرف" لأنها بكل بساطة ولا تحتاج لأي إثبات أو شهود "عايبة"!! هل يملك هؤلاء الهجريون بقية لشرف عائلي أووطني أو من أي نوع من الشرف عندما يبيحون للعدو كل ما في هذا الوطن؟ ولا تجد المقالة هنا متسع للتحدث كثيرا عن هذا "الشرف العائلي "المجروح والذي يدنسه الذكر الهجري صباحا مساءا.
إننا نعتقد جازمين أن ما يقف خلف السلوك العدواني للذكر العربي نحو المرأة هو شعوره بالقهر وبالمهانة مما تمارسه السلطات المستبدة بحقه من اضطهاد وإيغال في سحق آدميته، لأن رزح الإنسان المقهور تحت ضغط شعوره القهري يدفعه للتفتيش عن ضحية يحملها وزر عدوانيته المتراكمة داخله، فهو لا يكتفي بإدانة نفسه إلى درجة الدونية وجلد الذات وعدم احترامه لها كما وقع بل يحتاج إلى آخر ضعيف يدينه ويضع اللوم عليه وعندما بحث عن هذا الآخر لم يجد سوى المرأة أو الأبناء الصغار ليلقي عليهم لوم ما يعانيه من شعور المهانة. المصيبة أن سلطات الاستبداد ترعى وترسخ هذا الشعور لديه من خلال دسترة لقتل المرأة لقنونة العرف الاجتماعي المقيت. إن العديد من دساتير النظم العربية المستبدة تسهل لقتل المرأة على أساس جرائم الشرف وتسهل لطلاقها التعسفي أو للزواج عليها من أخرى مستندة على التشريع الهجري ذاته لأنه يعتبر "المرجعية الأساسية في التشريع" في جميع الدساتير العربية مع التأكيد على ال التعريف، إن لب الموضوع في سجن المرأة العربية هنا في هذه العقلية الهجرية وليس في حجاب رأسها: لأننا نعتقد أن العقل الهجري في مجتمعاتنا العربية الإسلامية يرمي إلى حجب عقلها وحريتها، فالحجاب كلباس هو اختيار يندرج من وجهة نظرنا تحت قائمة الحريات الشخصية إن لم ترتده الفتاة والمرأة بالإكراه وهذا يحصل كثيرا وللأسف.
إن العنف آفة المجتمعات الاستبدادية، لأنه انفجار الحقيقة الكامنة لشعور المهانة، فالسلطة العربية المستبدة لا تسعى ولا تريد مواطنين أسوياء بل تفضل قطيعا يتبعها لأنها تعتبر نفسها مرياعا، تريد مريدين وأتباعا وعبيدا مطيعين، وهؤلاء جميعهم يعانون من رهاب مستمر. تخشى سلطاتنا العربية المواطنية لأنها تنزلها من مكانتها الجبروتية إلى مستوى العلاقة الإنسانية العادية مع مواطنيها، التي تتضمن الاعتراف المتبادل والآراء المختلفة والتساؤلات المتبادلة.
إن وضعية المرأة في المجتمعات العربية هو المثال الأفصح على وضعية القهر الاجتماعي بكل أوجهه ودينامياته في التشكيلة الاستبدادية، وعجزها يعتبر أوضح تعبير عن شعور العجز والقصور وعقد النقص والعار الذي يعانيه أفراد المجتمع في هذه التشكيلة الاستبدادية، إنه أبلغ دليل على اضطراب الشخصية الاجتماعية وذهنيتها وقصور التفكير الجدلي واستحكام الخرافة. ليس لهذه الحالة التي تظهر عليها المرأة العربية علاقة ببنيتها البيولوجية أو التشريحية أو العقلية أو العاطفية كما يدعي الهجريون بل يرتبط كل الارتباط بقهرها المضاعف: اجتماعي ـ اقتصادي ـ سياسي ـ ديني، فالفروق البيولوجية والوظيفية والتشريحية لا تبرر ما يفرض عليها من تبخيس لإنسانيتها بل نكاد نقر بأنها أكثر مناعة من الرجل وأن تكوينها البيولوجي الوراثي أكثر متانة كما دلت أبحاث علمية كثيرة، الفرق بينهما هو ما يعطى لكل منهما من مكانة اجتماعية وحرية حركة وفرص تفيض للرجل وتشح للمرأة مما يؤدي إلى تنمية إمكانات الرجل وطمس ما لدى المرأة. يعتبر الاستبداد المضاعف الذي تمارسه السلطات المحلية المتخارجة مع قوى العدو في مجتمعاتنا العربية مسببا رئيسيا لأمراض الشخصية العربية واهتزازها مما يفسر حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والعدوانية والإرهاب وكل السلوك الغير سوي فرديا وجماعيا، ولا سبيل لتعافي الشخصية العربية، رجلا وامرأة، والتمتع بنعيم توازنها النفسي سوى بالثورة على الاستبداد بشقيه، وهذا ما ينبغي على الانتفاضات العربية أن تفعله، لا يمكن للوطن ولا للرجل أن يتحررا دون تحرر المرأة ومساواتها بالحقوق لأنه ليس بالإمكان لمجتمع أن يتحرر ويرتقي إلا بتحرر وارتقاء أكثر فئاته قهرا وغبنا إن كانت امرأة أو طفلا أو أقلية، فالتحرر إما أن يكون جماعيا أو لا يكون، وسواه مجرد وهم أو ادعاء.
بقي أن نعرج على نقطة أساسية هامة تتعلق بتاريخية هذا الاضطهاد الذي ما زالت ترزح تحت عبئه المرأة في كل أصقاع العالم يعاد إنتاجه بشكل دوري ومستمر ألا وهو تلازم تاريخ اضطهاد المرأة مع نشوء الملكية الخاصة.
لا تولّد الملكية الخاصة سوى الأنانية والمنافسة والعدوانية والعنصرية، فهي تفتح شهية الربح والطمع اللذان يوديان إلى الحروب التي تصنع انتصاراتها على حساب مصائر الضعفاء المحطمة، والمرأة هي الأكثر تحطما بين الضعفاء، "فهي زنجية الرجل ومستعمرته الأخيرة".
يظل التحرر ناقصا في ظل سيادة الملكية الخاصة التي أنتجت في جولاتها الأخيرة السلعة التبادلية لتنصّب إمبراطورة على إمبراطورية "السوق الحرة"، والحر الوحيد في هذه العلاقة هم المتحكمون بهذه السوق أصحاب رؤوس الأموال الأقوياء والبقية مجرد توابع وعبيد تزداد تبعيتهم كلما تقدمت حرية هؤلاء الأقوياء بالتحكم بهذه السوق، وما تتعرض له المرأة حتى في دول المركز الأكثر "تقدما" من استغلال في كثير من الأحيان ممأسس دولانيا يشكل أحد العناصر المكونة للنظام الرأسمالي بشكل عام، فالمرأة هناك تتعرض إلى العديد من أشكال التمييز بالنسبة للرجل فما زالت تتلقى أقل أجرا منه لنفس العمل ومواصفاته، ولا تجد في معظم الأحيان فرصة في عمل كامل الساعات والأجر، فعلى الرغم من ادعائهم هناك أنهن "يزرعن الشمس في ليل هذه الغابة الحالك" إلاّ أنه يميزن عن الرجل بناءا على تركيبهن البيولوجي أثناء اختيارهن للعمل إما بسبب دورتهن الشهرية أو رحمهن الواهب للحياة أو إرضاعهن لأطفالهن.
لا يكفي لتحقيق حرية المرأة توسع أفقي تحدثه بعض التشريعات في الدول التي تسمى متقدمة صناعيا كحق انتخاب المرأة وترشحها لأن التغيير الذي يمكن أن يطلق حرية المرأة كاملة هو التغيير الذي يعيد تشكيل المجتمع عموديا لينتج نمطا من العلاقات السوية بين أفراد المجتمع ومن ضمنها الرجل والمرأة ينتفي في ظلها شعور الاغتراب بكل أنواعه في إطار مجتمع عادل يحفظ كرامة كل منهما ويصون حرية كل منهما: الشخصية والجنسية بعيدا عن المساومة والضغط والقهر، ولا يمكن اعتبار قضية المرأة قضية نسائية بحتة بل هي مشكلة التطور الإنساني برمته نحو قيم إنسانية عالية.